هديل بدوي.. حكاية نزوح مأساوية بعد عملية ميلاد قيصرية
أحلام عبد الله – غزة:
في أشد كوابيسها سوءاً، لم تكن العشرينية هديل بدوي تتخيل أنها ستذهب على عربة يجرها حمار (كارو) إلى المستشفى، عندما ألمت بها آلام الميلاد، لوضع مولودها الثاني، الذي قضت أسابيع حملها الأخيرة به في مركز للإيواء داخل مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في حي الزيتون جنوب شرقي مدينة غزة.
لم تتوقف مأساة هديل (20 عاماً) عند هذا الحد، ولا تزال تعيش فصولاً من المعاناة، حيث اضطرت مع أسرتها وأفراداً من عائلتها، إلى النزوح الإجباري، على وقع القصف الجوي والبري والبحري، سيراً على الأقدام، وحملاً على الأكتاف، لمسافة تتراوح ما بين 10 إلى 15 كيلو متر، نحو جنوب القطاع.
وفي تفاصيل هذه الحكاية المؤلمة، تقول هديل “: “كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساءً عندما شعرت بآلام الطلق (المخاض)، وبقيت أعاني هذه الآلام حتى الصباح، لعدم توفر وسيلة مواصلات تنقلني إلى مستشفى المعمداني، التي وصلتها صباحاً في حالة صعبة للغاية”.
وصلت هديل لمستشفى المعمداني، ويقع في “ميدان فلسطين” في قلب غزة القديمة، بواسطة عربة يجرها حمار يطلق عليها شعبياً “كارة”، وقد باتت مع الحصار المطبق الذي تفرضه دولة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومنعها توريد الوقود، إلى وسيلة النقل والمواصلات الرئيسية للسكان.
ورغم أن المسافة ما بين مركز الإيواء وهذا المستشفى، الذي كان في أحد أيام الحرب مسرحاً لمجزرة إسرائيلية مروعة، ليست بعيدة، إلا أن هديل وصلت منهكة تعصف بها الآلام، وتقول: “وضعت طفلي بعملية قيصرية”.
ولم يمض على مكوث هديل في المستشفى سوى 14 ساعة فقط، ليست كافية بالنسبة للتعافي من آثار أوجاع العملية القيصرية والمسكن الموضعي، حتى طالبها الأطباء بضرورة مغادرة المستشفى فوراً نحو مدن جنوب القطاع، لتجنب المخاطر المحدقة بالمستشفى، التي كانت الدبابات وآليات الاحتلال تتقدم نحوه من محاور توغلها في غرب مدينة غزة، وبالتزامن مع انذارات إسرائيلية ساخنة لإدارة المستشفى بإخلائه.
وعند الساعة السادسة صباحاً، غادرت هديل ومرافقيها المستشفى، وعادوا إلى مركز الإيواء داخل مدرسة في منطقة عسقولة بحي الزيتون، وما هي إلا ساعات قليلة حتى تعرضت المدرسة لقصف إسرائيلي، أوقع شهداء وجرحى، واضطرت هديل وآلاف آخرين إلى الفرار للنجاة بأرواحهم.
استشهدت جدة هديل متأثرة بجروح جراء إصابتها بشظية في ظهرها، فضلاً عن معاناتها طوال فترة النزوح كامرأة مسنة ومقعدة من الجوع والعطش، بسبب قلة الطعام وشح المياه الصالحة للشرب، التي كانت مهمة توفيرها محفوفة بمخاطر مميتة، حيث كان فتية من أبناء النازحين يتسللون ليلاً وعلى وقع الغارات الجوية والتحليق المكثف للطيران الحربي، لتعبئة غالونات بلاستيكية بمياه مالحة من مسجد مجاور.
لم تستطع هديل من الإعياء الشديد إكمال باقي فصول معاناتها، لتكمل والدتها إيمان تايه (41 عاماً)، وتقول “: “كنا 45 فرداً من العائلة داخل المدرسة عنا تعرضت للقصف، وأصيب غالبيتنا بجروح، واضطرت سلفتي إلى لف ابنها الشهيد بقطعة قماش وتركه بالمدرسة، ونزحنا في ظروف صعبة للغاية”.
ولأن هديل لا تقوى على المشي مسافة طويلة، اضطر أحد أعمامها إلى حملها على ظهره تارة، وتارة أخرى يضعها على غطاء ثقيل ويجرها جراً، وقد توقفوا مراراً خلال الطريق لتمكين هديل من إرضاع مولودها في ظل ظروف بالغة المأساوية، بحسب وصف والدتها إيمان.
وبعد طول عناء اجتازت هذه العائلة “مفترق الشهداء” على شارع صلاح الدين، واستقر بها المقام منذ نحو أسبوع في مركز إيواء بمدرسة تابعة لأونروا في مدينة رفح، لكن معاناة هديل وأسرتها لم تنته، وتعيشها بوجوه أخرى، حيث يتكدسون داخل غرفة مدرسية ليس بها موضع قدم، ولا تتوفر بها أبسط مقومات الحياة للإنسان، فضلاً عن احتياجات امرأة ولدت حديثاً ونزحت بجروح عمليتها القيصرية، وتحتاج الرعاية الطبية والتغذية الصحية السليمة.
وتقول إيمان: الواقع سيئ للغاية داخل المدرسة، ويزداد سوءاً بالنسبة لهديل، وهي أم لطفلة لا تتجاوز العامين، ولا تزال تعاني آلام الميلاد، وتحتاج هي ووليدها للرعاية والتغذية، فيما المتوفر من الطعام والمياه يومياً غير مناسب لحالتها سواء من حيث الكمية أو النوعية.
وبحسب بيانات أونروا الرسمية فإن أكثر من 900 ألف فلسطيني لجأوا إلى مراكز الإيواء في مدارسها ومرافقها المنتشرة على امتداد القطاع، غالبيتهم حالياً في مدن جنوب القطاع، وأن إمكانياتها لا تمكنها من تقديم سوى 30% من احتياجاتهم الحياتية اليومية.