قلم الإرادة

بين التعريب والتغريب

يحكى أنّ أعرابياً دخل المسجد في خطبة الجمعة.. وكان الخطيب هو أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وهذا من عادة الخلفاء أنهم يخطبون في الجمعة، فأخطأ الخليفة “أي أخطأ في نطق كلمةٍ كوضع الضمة بدل الكسرة” لكنّ الأعراب وكما هو معروفٌ عنهم يجيئون من مناطق لا يطرق الخطأ فيها آذانهم، فلمّا سمع الخليفة أخطأ تمعّر وجهه، فتصبّر.. وأكمل الخليفة خطبته ثمّ أخطأ مرةً أخرى، فقال الأعرابي بصوتٍ مسموع “أَوّهْ” وقد اختلفَ وجهه، ثمّ أخطأ الخليفة مرةً ثالثة، فقال الأعرابي لأمير المؤمنين “أشهدُ أنكَ وَلِيتَ هذا الأمر بقدَر”، ويقصد أنّه لو لم يكُن هذا أمراً مقدّراً لك لما وليته لأنكَ لا تصلحُ له إذا كنتَ تُخطئ في الكلام هكذا وأنتَ الخليفة، رغم أنّ عبد الملك بن مروان قد قال غير مرةٍ “لقد شيّبني اعتلاءُ المنابر”!

أما نحن ففي زمنٍ تطرقُ فيه آذاننا الأخطاء، فلا نميّز منها شيئاً، وابتُلينا بآفة التغريب دون إصلاح علّة التعريب، لا أدعو للتحدّث بالفصحى إطلاقاً رغم حبّي لها، لكني أدعو للمحافظة على ما تبقّى من لغتنا المتمثلة في لهجاتنا، إذ اختلفت الموازين.. مَن يتحدّث بلسانٍ عربيٍ أعجميٍّ فهو مثقف، ومن يتحدث بلسانٍ عربيٍ مبين فهو رجعيّ، وأذكر أنني استمعتُ مرةً إلى درسٍ في تطوير الذات.. تحدّث مقدّمها بالفصحى، قاطعتهُ إحدى الحاضرات وقالت “خاطب الناس على قدر عقولها، وتحدّث بالعامية”، أيّدها الكثيرون، ولا عجب إذا اختلَطَ الحابلُ بالنابل، فهذا مثلٌ يُطلقُ على عِلمِ المتلقّي بما يتلقاه، لا بما يُحدّثُ به، فلا يمكنكَ إعطاء محاضرةٍ في الكيمياء لعامل بناء، لكنّكَ ستحدّثه بالفصحى وسيفهم!

في ظاهرة النشر الأخيرة.. وجدت الكثير من الكتب العربية ذات العنوان الإنجليزيّ، وهذا من باب التسويق، لكن الذي لا أفهمه هو وجود دواوين شعر عربي بعنوان إنجليزي، ربما أتفهّم ذلك في كتب الرواية حيث أنّها فنٌ حديث، أما الشعر؟ فهي الطامة في رأيي، يقول ابن عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما “الشعرُ ديوان العرب” أي أخبارهم وتاريخهم وكلّ ما نريد معرفته عنهم سنجدهُ في الشعر، فهل سأعرفُ العربَ بعد مئة عامٍ في كتابٍ عنوانهُ بالإنجليزية ومحتواه بالعربية؟

سيقولُ أحدهم أنني أبالغ.. لكنني أستحضر الاستعمار الإنجليزي في مصر، حيث خلَصتَ دراسة أنّ معدّل معرفة الطفل العربيّ للغة هو 100 ألف كلمة بعمر السابعة أو الثامنة، حيث أنّ القرآن وحده 77 ألف كلمة وألفية ابن مالك (1000 بيت شعر) كانت تُدرّس في تلك الأيام، لذلك كان العربُ أذكياء وأقوياء، لكنّ الإنجليز وضعوا خطةً لتقويض هذا الذكاء بإنشاء مدارس وإيهام الناس أنها للراقين فقط وأبناء الذوات، وفيها يتعلّم الصغار الإنجليزية واللغات الأخرى من صغرهم وإبعادهم عن العربية، ونجحت الخطة!

هل نريد عرباً متغرّبين في وطنهم؟ هويّتنا هي لغتنا، ديننا أساسهُ لغتنا التي نزل بها القرآن، حيث يعلمُ اللهُ أينَ يضعُ رسالته، أنا أدعو فقط إلى الحفاظ على ما تبقّى بعدَ أن أضعنا إرثاً لن يعود، ورحم اللهُ الإمام الشافعيّ حين قال ” من تعلّمَ القرآن عَظُمَ قدره، ومن تعلّمَ الحديث قَوِيَتْ حُجّته، ومن تعلّمَ العربيّة رَقّ طبعُه”!

 

**

 

سارا علي آل الشيخ – كاتبة في صحيفة الإرادة الإلكترونية

Twitter: ‪@saaraali_14

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى