الشركات العالمية تتخلى عن مسؤولياتها الاجتماعية!

عندما ذهب دونالد ترامب الى هيرشي في ولاية بنسلفانيا ليشكر الناخبين على مساعدته في الفوز بمنصب رئيس الولايات المتحدة، كان لتلك الزيارة أهمية ومعنى خاص. مدينة «الشوكولاتة»، التي بناها الصناعي ميلتون هيرشي في أوائل القرن العشرين قرب مسقط رأسه، تمثل ما يشعر كثيرون بأنهم فقدوه.
قال ترامب أمام الجماهير في الملعب، حيث يلعب فريق هيرشي بيرز لهوكي الجليد: «لسنوات سلبت الوظائف والثروة من بلدتكم ومن بلدنا كأننا مجموعة من الأطفال. الناس يتحدثون عن كيف أننا نعيش في عالم تسوده العولمة، لكن العلاقات التي يقدرها الناس بحق هي العلاقات المحلية، الأسرة والمدينة والولاية والبلد. المحلي، أيها المواطنون، المحلي».
المحلي هو آخر شيء كانت يطمح اليه الكثير من الشركات خلال العقود الثلاثة الماضية، عندما انهارت الحواجز التجارية وخلقت العولمة اقتصادات كبيرة الحجم، بما في ذلك حرية الاستعانة بمصادر انتاج خارجية في البلدان ذات الأجور المنخفضة مثل الصين أو استخدام العمال المهاجرين للقيام بوظائف لا تتطلب مهارات.
الشعور بهذا الأمر حاد وقوي في حزام الفقر والمناطق التى تعاني تراجعا في التصنيع وتقادم المصانع وتراجع عدد السكان لقلة الوظائف (على سبيل المثال، مدن تصنيع الصلب في بنسيلفانيا وأوهايو) في الولايات المتحدة ومناطق في المملكة المتحدة التي صوتت لمغادرة الاتحاد الأوروبي هذا العام. وقد ساهم الشعور المتزايد في أن الشركات متعددة الجنسيات هي بلا جذور ولا وطن، وليست مسؤولة عن أي بلدة أو مدينة بالأسلوب الذي تبناه ميلتون هيرشي وأرباب العمل التقدميون في عصره، في ثورة هذا العام.
الحلول التي يطرحها ترامب، هي زيادة الحواجز الجمركية وفرض عقوبات على الشركات التي تنقل الانتاج الى خارج الولايات المتحدة، تعد بدائية وناقصة بقدر صرخة الألم التي جاءت به الى البيت الابيض. لم يعد بامكان ولاية ويست فيرجينيا استعادة صناعة استخراج الفحم مثلما لم يعد بامكان غرب يوركشاير استعادة مصانع النسيج. وهناك العديد من فرص العمل التي تنتقل بالفعل من الصين الى فيتنام وبنغلادش.
الا أن التوق والشوق، بالنسبة لأرباب العمل الذين يشعرون بالالتزام تجاه العاملين لديهم والشوارع التي تنبض بالحياة كما كانت الحال عندما بنى هيرشي متجره في ركن جادة الكاكاو والشوكولاتة، ليس جنونا. فمن المنطقي أن نطلب من الشركات دعم المجتمع وليس التخلي عنه.
هذا ما كان يؤمن به هيرشي وتيودور روزفلت، الرئيس كان يدعمه هيرشي. في خطاب ألقاه عام 1910 في ولاية كانساس، اقتبس روزفلت عبارة لأبراهام لنكولن مفادها «العمالة تأتي قبل رأس المال وهم مستقلون عنه. العمالة تتفوق على رأس المال وتستحق أن نوليها الاهتمام الأكبر». وأعلن قائلا إن لينكولن «توقع صراعنا الحالي وقدم لنا الحل».
«الصراع الحالي» في ذلك العصر هو النزاع الناجم عن التصنيع السريع في أواخر القرن القرن التاسع عشر وظهور هيئات وشركات الاحتكار التى توظف مجموعات من العمال غير المهرة، وغالبا بشروط غير رسمية وغير نظامية. احدى شركات ميلووكي في ثمانينات القرن التاسع عشر كانت تطلق على عمالها البولنديين مايك 1 ومايك 2 ومايك 3 بدلا من تسجيل أسمائهم الكاملة.
تمثل الرد بظهور الحركة التقدمية، وهي الحركة التي حاولت رسم حل وسط بين الاشتراكية والرأسمالية غير المقيدة من خلال القوانين التنظيمية العامة والرعاية الاجتماعية للشركات. بناء هيرشي للمنازل والمتاجر وحتى حديقة عامة حول مصنعه كان أفضل وأكمل تعبير عن حركة أوسع لاشراك أرباب العمل في تحسين رفاه العمال.
في خطابه الذي ألقاه في كانساس ودعا فيه الى «القومية الجديدة» و«تكافؤ عملي في الفرص»، أعلن روزفلت قائلا «أنا أقف مع التوصل الى صفقة متكاملة». ورسخ تلك الفكرة في العمل: «لا يمكن للانسان أن يكون مواطنا صالحا مالم يكن لديه أجر كاف يفوق تكاليف المعيشة.» ووعد، بمثل أسلوب ترامب «أنا أتحدث اليكم هنا في كانساس تماما كما لو كنت أتحدث في نيويورك».
هناك تشابه واضح بين أوائل القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، كلتا الحقبتين الزمنيتين تتسمان بالاضطراب الصناعي وتوليد الثروة وتحركات السكان التي يسير فيها الاغتراب جنبا الى جنب مع الازدهار. فارق وحيد هو أن المدن كانت في ذلك الزمان أماكن المشقة والحياة الصعبة بينما اليوم، العديد من المدن آخذة بالازدهار في حين تفقد الضواحي والبلدات هويتها.
التجسيد الحديث لهيرشي موجود في المدن، حيث تمتلئ المخازن الصناعية بشركات التكنولوجيا المبتدئة ويتم بناء الشقق لاسكان العاملين المهاجرين، في حالة لندن وبرلين تم استقطاب العمال المهاجرين من مختلف أنحاء أوروبا. هناك أيضا شوارع رئيسية، يوجد فيها محال جزارة ومخابز ومصانع «الجعة» وصالات رياضية. هنا حيث يوجد كل النسيج الاقتصادي الذي خسرناه أمام المدن في مناطق التصنيع القديمة.
لا تزال عبارة ترامب «المحلي، أيها المواطنون، المحلي» موجودة، لكنها موزعة بشكل سيئ وليس في الأماكن التي يعيش فيها كثير من ناخبيه. أدواته لتغيير هذا الوضع محدودة، بصرف النظر عن استخدام «منصة الرئاسة» التى كان يستخدمها روزفلت لاقناع الشركات بالبقاء في الولايات المتحدة بدلا من نقل الانتاج الى الخارج، كما فعل مؤخرا مع «كارير» شركة صناعة التكييف والتدفئة، بخصوص مصنع انديانابوليس.
لكن هناك فرصة سانحة هنا، كما أدرك العديد من الشركات في ذلك العصر التقدمي. اعتبر هيرشي في بادئ الأمر غريب الأطوار لبناء بلدته على أرض زراعية، لكن التجربة نجحت: اذ خلق اقتصاد محلي من خلال توظيف العمال وبيع المنازل وفتح المحلات التجارية. يقول مايكل دي أنطونيو في كتابه «هيرشي»: «عندما انتشر تداول الدولارات بين الناس، كانوا يحققون مزيدا من الأرباح لمختلف كيانات هيرشي».
جلبت التجارة العالمية الثروات والمكاسب المادية في السنوات الـ 30 الماضية، لكنها عملت على تفريغ البلدات التي تم نسيان أمرها. اذا كانت الطبقات المهنية هي الوحيدة التى تتمتع بالمنافع والمزايا الاقتصادية والاجتماعية من الشركات المحلية، فان الاستياء الذي ساد وانتشر في 2016 لن يتلاشى. الرئيس المنتخب ترامب مخطئ في كثير من الأمور، لكنه محق في هذا الأمر.
فايننشال تايمز باتفاق خاص مع القبس
ترجمة وإعداد إيمان عطية