أنا فقط .. أم كل من هو وحيد؟
ظهراً خرج من منزله مسرعاً إلى باحةٍ ترابيةٍ مجاورة، أبطأ من جريه عند اقترابه منها، شمس الظهيرة صاهدة، تراب الأرض يغلي، ملابسه ثقيلة، لم يختار ارتدائها لقد كانت آخر ما وجده معلق على المشجب! خطف ما يستر جسده النحيل! ومن ينشد الستر لا يكترث لأشكال الملابس وألوانها!! كل ما حوله يغلي، سيارات مصفوفة بترتيب تابعة لشركة البريد، غطى ركن منها المكان، أحس وكأنه يزور الباحة أول مرة، بدأ المكان غريب موحش! لم يشعر بكل هذا الجفاف برفقة “محمد” ليل البارحة! استوطن الجفاء كل شيء، استكان الهلع بعد خطوات من وصوله .. أخذ يفكر أين يذهب؟ حرارة الشمس امتصت قواه، ذهب هارباً من لهيب الشمس الحارق، انزوى بجانب إحدى سيارات البريد، أسند ظهره على عجلتها، مد يده بجيب البنطلون، أخرج علبة التبغ، أشعل سيجارة، أخذ يمتص غيبوبته بحسرة، بعد أن فرغ من التدخين وأد سيجارته في الرمل وكأنه ينتقم منها، ارتكن بكوعه على الأرض مستظلاً بظلال إحدى سيارات البريد …. ونام! أيقظه صوت عمال البريد في فترتهم المسائية، ألقى بنظره على الكون الصامت حوله إلا من هدير سياراتٍ قليلة مسرعة قادمة من الشارع العام، نفض التراب من رأسه، عرك الوسخ من سترته .. انتعل حذاءه وذلف لمحطة الحافلات، إنها المرة الأولى التي يذهب لها بمفرده، ذهب كثيرأٌ بصحبة والده، الطريق متعب وطويل، لم يكن كذلك، في كل مرة كان يرافقه بها والده يسأل نفسه: هو كذلك في الحقيقة؟ أم يشعر بطوله ووحشته كل من هو وحيد!! المحطة منهكة، ورائحة العوادم خانقة وضجيج الحافلات هاطل، وقف منتصف المحطة بجسد متعبٍ ثقيل، حاول تذكر رقم الحافلة التي تصل براكبيها للسوق، أخذ يستحلب الذاكرة، أخذ ينبش قشاشها ويسترجع أيامأٌ بتفاصيلها الدقيقة عل رقم حافلة السوق يبزق، لم تخنه الذاكرة! تذكر ما خطفه بصره ذات مساء بصحبة والده عندما طلب منه وعلى غير عادة أن يتأكد من الرقم، لم يكن يجادله في شيء، ذهب هابطأً من الحافلة مطلاً على الرقم متأكداً منه! صعد الباص بجسد هامد متعب قاذفأٌ به على المقعد الأخير، الباص شبه خالي إلا من راكب عجوز يجلس في المقدمة، غريب كل شيء حوله وكأنه لم يكن يبصر قبل هذا اليوم! الخوف وصرير المقاعد وهدير المحرك، رافقت وحدته توقفت الحافلة عند نقطة السوق، هبط الأرض برأس ثقيل وثياب واسعة. استقبله صراخ الباعة، وزحمة المتسوقين، لا يعرف أين يذهب؟ هو لا يعرف لماذا أتى هنا! دس يده في جيب سترته يسأل نفسه: لماذا أنسلت الحياة من هنا؟ لماذا صياح الباعة أصبح مفزع؟ أنا فقط من يشعر بذلك أم كل من هو وحيد؟
أحمد المهيدي ـ كاتب في صحيفة الإرادة الإلكترونية
Twitter: @alaliahmad