العبقرية التكتيكية والاستراتيجية في مناورة الاتفاقية السعودية – الإيرانية
سأقوم بتحليل أبعاد الاتفاق السعودي – الإيراني بعيداً عن سردية علاقاتهما التاريخية المُتّسم سياقها العام بالتّوتر وبعيداً كذلك عن الجانب الأيدلوجي منها؛ لأن الاتفاق منعزل عن كل ذلك ومبني على حسابات تكتيكية واستراتيجية مرتبطة بالظرف الموضوعي للحالة الدولية وتأثيراتها على كل أطراف الاتفاق، وتأثيرات الاتفاق الثلاثي بالمقابل عليها أي (على الحالة الدولية).
أولاً: سنفحص معاً السياق الموضوعي الذي سبق الإعلان عن الاتفاق الثلاثي (السعودي/الإيراني/الصيني)/
1. تتعامل المملكة العربية السعودية مع إدارة أميركية يسارية متطرفة منذ صعود بايدن لإدارة البيت الأبيض، وطوال سنوات بايدن الثلاثة لم يرسل سفيراً للمملكة، كما حاول بشكل متكرر الإساءة لقيادتها، وكذلك حاول التأثير على مصالحها الامنية خاصةً في ملف التسليح، مماخلق ضغطاً أمنياً أميركياً – غير مسؤول – على أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في العالم، وأبرز مؤشرات هذا الضغط هو تراجع تصنيف المملكة العسكري خلال ثلاثة سنوات فقط وفقاً لتقرير غلوبال فاير باور، حيث انخفض ترتيبها العسكري من المركز السابع عشر على مستوى جيوش العالم في اللحظة التي صعد فيها بايدن لرئاسة البيت الأبيض، إلى المركز الثاني والعشرين في مطلع عام 2023م الجاري، ومع حقيقة أن الإدارة الأميركية تريد تصليح علاقتها مع المملكة خاصةً بعد اندلاع حرب اوكرانيا وارتفاع تأثير وأهمية سياسات انتاج الطاقة على معادلة الأمن الدولي بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أن المملكة ترفض مقابل فقط “محاولات تودد الإدارة الأميركية لها” أن تقوم بالانحياز الدولي الذي تطلبه الولايات المتحدة بشكل يعزز من موقف أمن أميركا الدولي إلا في إطار شروط محددة، والتي بطبيعة الحال سيعني تحقيقها ظفر السعودية بمكتسبات عسكرية وتقنية واستراتيجية كبيرة جداً ويمكن اعتبارها ثمناً مقبولاً لموقف الانحياز السعودي لصالح المحور الغربي الذي تطلبه الولايات المتحدة.
2. تتعرض إيران لضغوط داخلية كبيرة، ومن أهم أسبابها تردّي جودة الحياة في الداخل الإيراني نتيجة العقوبات الأميركية وضغط ذلك على الشعب الإيراني بشكل جعله ينفجر على قضية الحجاب كأحد الرمزيات المرتبطة بالنظام الإيراني الإسلامي، ومن ناحية أخرى هناك مؤشرات على اعتزام قوات دولية شنّها حرب جوية ضد إيران لتدمير ثلاثة آلاف هدف عسكري ونووي إيراني بناءً على إفادة الاستخبارات الفرنسية المنشورة على راديو فرنسا بعد اجتماع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما تقف إيران في نفس السياق على عتبة امتلاك سلاح نووي، وذلك عبر احتياجها لمدة اثني عشر يوماً فقط لتصنيع سلاحها النووي من اللحظة التي تعتزم بها تصنيع السلاح وفقاً لإفادة البنتاغون الأميركي.
3. تواجه الصين صعوبات في الدخول عملياً بشراكات أمنية مع دول مجلس التعاون وذلك بسبب انتشار القواعد العسكرية الأميركية في معظم دول المجلس أولاً، وثانياً لاعتماد دول المجلس على السلاح الغربي بسبب طبيعة معظم البنى العسكرية الخليجية الرئيسية، مما يجعل عملية إدخال السلاح الصيني في القطاعات العسكرية الرئيسية، أمراً يحتاج إلى عدة سنوات من الناحية التقنية، وما دامت هذه الحالة الأمنية تفرض حالها فإن مساحة المناورة الدولية بين الشرق والغرب بالنسبة لدول مجلس التعاون ما زالت محدودة وغير مرضية بالنسبة للجانب الصيني، ولذلك وجدت الصين طريقاً آخر تدخل به كطرف مؤثر بشكل مباشر على معادلة أمن دول مجلس التعاون عبر تقييد أنشطة مهددها الأمني الإقليمي الأساسي “إيران” وضمان عدم تهديدها لدول المجلس عامةً وللسعودية بشكل خاص باعتبارها عامود خيمة دول المجلس، وبذلك يكون هذا الدور الصيني هو أكبر مدخل يُعجل تغلغل الصين أمنياً في معادلة الأمن الإقليمي بالنسبة لدول مجلس التعاون وهو الأمر الذي يوسع مساحة المناورة الدولية المتاحة أمام دول المجلس بشكل يجعلها تستطيع الذهاب أكثر باتجاه الصين بشكل آمن.
ثانياً: ما هي المكتسبات التكتيكية والاستراتيجية بالنسبة لأطراف الاتفاق بمجرد الإعلان عن الاتفاق؟
1. مكتسبات المملكة التكتيكية والاستراتيجية:
• مجرد الإعلان عن الاتفاق ودخول الصين طرفاً فيه وإعلان المهدد الإقليمي الأول (إيران) وقف تهديداتها الأمنية للمملكة العربية السعودية المتمثلة بتسليح الحوثيين من الدرجة الأولى، فإن الضغط الأمني والاستراتيجي يكون بشكل أساسي على الولايات المتحدة دولياً وإسرائيل إقليمياً، وذلك سيخدم الموقف التفاوضي السعودي مع الجانب الأميركي بشكل كبير ويحفز الولايات المتحدة لتقديم تنازلات قد تصل لدفعها بقبول عدد من الشروط السعودية لكسب انحياز المملكة معها مجدداً أو على الأقل لتبطيء سرعة وتيرة اقتراب المملكة من جمهورية الصين الشعبية خاصةً في مجال التعاون الأمني.
• في حال اندلاع حرب جوية غربية ضد إيران، فإن الاتفاق يُجنب المملكة خاصة ودول مجلس التعاون عامة ردود الفعل الإيرانية وذلك باعتبارنا: منطقة مستضيفة لقواعد أميركية انطلقت من أراضي بعض دولها المقاتلات الأميركية التي ستكون قد استهدفت بنوك الأهداف النووية والعسكرية في العمق الإيراني في حال اندلاع سيناريو الحرب الجوية، بمعنى أن الاتفاق الآن قبل اندلاع سيناريو الحرب سيُبعد كل من إيران ودول المجلس عن المجالات التي تفتح أبواب احتمالات اندلاع سيناريو حرب خليجية – إيرانية طويلة ومنهكة للجانبين بشكل لا تستفيدمنه سوى قوى إقليمية أخرى كإسرائيل أو دولية كالولايات المتحدة؛ لأن اندلاع حرب خليجية – إيرانية في هذا التوقيت سيدفعنا دفعاً كدول مجلس التعاون للعودة بشكل كامل للجانب الأميركي والتخلي عن كل مناوراتنا الدولية باتجاه الصين؛ لأن الدولة الوحيدة التي ستستطيع تأميننا الفوري بهذا التوقيت بكامل احتياجاتنا العسكرية والدفاعية أثناء اندلاع الحرب هي الولايات المتحدة لأنه بطبيعة الحال بُنانا التحتية العسكرية في غالبها غربية أو أميركية، والانتقال للسلاح الشرقي أو الصيني سيحتاج وقت أطول لن نمتلكه أثناء اندلاع عمليات الحرب في هذا التوقيت لا سمح الله.
• في حال التزام إيران بمضامين الاتفاق وهو على الأرجح ما سيحصل خلال الفترة القريبة على الأقل، فإن التزامها سيلقي بظلاله الإيجابية على الحالة اليمنية بسبب نفوذ إيران على الحوثي والذي تكتسبه نتيجة شحنات التسليح التي تمدها به منذ بداية الحرب، ولذا فإن أحد أهم آثار الاتفاق هو خلق حالة إيجابية تحسم حل ملف اليمن بشكل مفيد جداً للموقف الإقليمي والدولي والأمني السعودي.
كما هناك عدد آخر من المكتسبات التكتيكية والاستراتيجية التي حققها الجانب السعودي نتيجة الإعلان عن هذا الاتفاق ولكني آثرت تحديد هذه النقاط لتكاملها في نسق منطقي واحد عندما نرى مكتسبات بقية أطراف الاتفاق وهو ما يجعلنا نرجح أن هذا النّسق هو الأساس الموضوعي لولادة هذا الاتفاق.
2. مكتسبات إيران التكتيكية والاستراتيجية:
• ضمان عدم تشكّل محور إقليمي/ دولي تجتمع به الدول العربية مع الدول الغربية ضد إيران، وذلك عبر إنهاء إيران لتهديداتها التي تمثل الدوافع الأساسية للدول العربية من وراء فكرة انضمامها المحتمل مع التحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي كان يستهدف ضرب إيران، وبذلك يكون هذا الاتفاق بمثابة الإعاقة الفعّالة لعملية تشكّل قوات دولية تعلن حربها الجوية على إيران مما يُكسب إيران مزيد من الوقت وبالتالي مزيد من الاقتراب نحو الحصانة النووية.
• في حال تشكّل تحالف عسكري دولي يستهدف شن حرب جوية ضد إيران، فإن أجواء ومياه وأراضي السعودية بشكل خاص ودول مجلس التعاون بشكل عام ستكون مقفلة أمام هذه القوات الدولية، مما يعني تصعيب الأعمال العسكرية المحتمل أن تشنها هذه القوات الدولية ضد إيران.
• إيقاف نشاط أذرع إيران العسكرية خارج إيران وإرساء اتفاقات سلام في تلك الدول، حتى تتمكن إيران من سحب عناصر هذه الأذرع العسكرية دون فقدان نفوذها السياسي، علماً بأن إيران بحاجة لإعادة عناصر أذرعها العسكرية في الخارج إلى الداخل الإيراني حتى يساعدوها في عملية تثبيت نظامها خاصةً أثناء اندلاع الأعمال الاحتجاجية الحالية، والتي من المتوقع أن تزداد بشراسة في المقبل من الأيام خاصةً عندما تندلع حرب جوية غربية تقودها الولايات المتحدة ضد إيران.
3. مكتسبات الصين التكتيكية والاستراتيجية:
• تمكنت الصين من توسيع مساحة المناورة الدولية التي تمكّن دول مجلس التعاون من الاقتراب أكثر باتجاه الصين التي تشارك بشكل مباشر في ضمان أمنهم الإقليمي عبر التزامها بتقييد السلوك الإيراني المهدد لأمن دول المجلس.
• عرضت الصين نموذجاً جديداً لتحقيق الأمن والسلام في واحدة من أهم بؤر التوتر في العالم (منطقة منابع الطاقة التي ترتبط بها مصالح كل دول العالم) دون حاجة إلى الانخراط في أعمال عسكرية لفرض الأمن أو السلام كما تفعل الولايات المتحدة.
• وسّعت الصين نفوذها الأمني في منطقة رئيسية من مناطق المصالح الأمنية والحيوية الأميركية بشكل يؤثر على معادلة الأمن الدولي الأميركي، رداً على توسيع أميركا لنفوذها الأمني على تايوان بشكل مهدد لوحدة وأمن الصين الجيوسياسي.
ثالثاً: ما هي الاختبارات الرئيسية التي ستختبر متانة الاتفاق الثلاثي؟
1) مدى إلتزام إيران بتطبيق إجراءات إعادة بناء الثقة خلال الشهرين القادمين، وأحد أهم إجراءات بناء الثقة هو مدى اتخاذ إيران لمواقف فعّالة تدفع باتجاه حل ملف اليمن بشكل يحقق الاعتبارات الأمنية السعودية.
2) مدى تغيّر الموقف الأميركي التفاوضي مع السعودية خلال شهرين، بمعنى هل سيقبل الأميركان بشروط المملكة السابقة بشكل يترتب عليه كسب الأميركان لموقف الانحياز السعودي أم لا؟
3) مدى قدرة الاتفاق الثلاثي على تحقيق التزام أطراف الاتفاق بعدم التّعرّض لبعضهم أثناء اندلاع سيناريو حرب جوية أميركية ضد إيران تستهدف تدمير قدرات إيران النووية، خاصةً مع تزايد إغراءات الأعمال العسكرية بين أطراف الاتفاق أثناء هذه الحالة العسكرية المحتملة.
4) مدى تغيّر الموقف الأميركي التفاوضي مع السعودية بعد خروج بايدن وصعود رئيس آخر والذي متوقع أن يتم بعد عدة أشهر، وهل سيحقق التّغير في الإدارة الأميركية تغّير آخر في الموقف التفاوضي الأميركي مع الجانب السعودي بشكل يحقق اختراق لموقف الحياد السعودي ويتمكن من تقديم مكتسبات تقرر بموجبها المملكة الانحياز مع المحور الأميركي على حساب المحور الصيني؟
ختاماً:
على كل حال من الأحوال، سواءً التزمت إيران بالاتفاق أو لم تلتزم، تعتبر المملكة العربية السعودية مستفيدة بشكل كبير عبر تعزيزها لموقفها التفاوضي مع الولايات المتحدة من ناحية، وعبر تحييدها للصين وإبعادها إياها عن موقف الانحياز مع إيران ضد دول مجلس التعاون من ناحية ثانية، حرفياً الاتفاق الثلاثي كان مناورة دولية عبقرية على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي الدولي، بمعنى آخر هذا الاتفاق لا يوجد به خسارة، بقدر ما يوجد به من فوائد وأرباح تعود على جميع أطرافه.
••
عبد الله خالد الغانم – محلل سياسي كويتي
Twitter: @akalghanim11