بينما العالم مستغرقاً في مآسيه الإنسانية .. غارقاً فى نزعاته المستبدة.. متعادياً .. متصارعاً .. متقاتلاً .. تفاجئه الطبيعة إذا ما جاز هذا التعبير بشيء جديد مدهش .. خطف الألباب والعقول .. وأوقف جميع مناحي ومسارات الحياة .. وتسلطت عليه الأضواء .. وانتقلت به إلى منطقة جديدة واستغرقته تماماً حتى لم يعد قادراً أن يكون على مثل ما كان ..فلم يكن حدثاً مثل تلك النوعيات التي اعتدنا عليها وعرفناها رغم هولها وشدتها كالبراكين أو الزلازل أو الفيضانات أو الأعاصير التي تميزت دائماً بمحدودياتها زمنياً ومكانياً؛ بل جاء هذا الحدث الجديد ليطلق عليه وصف العالمية فهو ممتد من حيث المكان والزمان ..فلا تعرف له أرضاً يسكنها .. ولا زمناً يستغرقه فيها .. ولاتعرف بماذا هو فاعل بنا؟
وأصبحت الكورونا المستجدة وهي جديرة بهذا اللقب وتستحقه لا نعرف أصلها ولا فصلها ولا من أين أتت ولا ماذا تريد ومتى ترحل ولامتى تبقى؟ فالعالم يغني بالكورونا .. ويحيا بها.. ويخاف منها ويهرب بعيداً عنها مختبئاً .. ويطلق نكاته الساخرة وتعليقاته البائسة معبراً عن سخطه واستيائه.
ولكن.. ولأن الكورونا قد أتت لنا بجزء من الحقيقة وليس الحقيقة كلها .. فقد كان لغموضها سبباً في أن يتسلل إليها الوهم الإنساني يبحث في خباياها عن مغامرات إنسانية جديدة غير مبالي بأخطارها .. فكان لإطلاق عنان الوهم في معرفة حقيقة الكورونا سبيلاً لبزوغ نظرتين في الوهم .. إحداهما من مؤيدي أفكار المؤامرات الكونية.. والأخرى من أنصار الابتلاءات الربانية .. ومازال العالم يعيش ويحلم بتسجيل لحظات المجد الإنساني في القضاء على هذا العدو والخصم الغامض ورفع راية الكبرياء الإنساني على الأرض .. ويعيش أيضاً لحظات الضعف والتراجع بين الفشل وعدم القدرة على تحقيق الانتصار والخلاص، وبين الحقيقة التىي نعرفها أو ندعي أننا نعرفها .. وبين اللا حقيقة التي نعرفها أو لا نعرفها .. ينطلق خيالي الواهم المسكين .. فأعدت في نفسي ما وفرته لي ذاكرتي المندحرة من دروس الأحياء التي تلقيتها فى تعليمي المندثر من خصائص الكائن الحي .. فما زلت أتذكر أنني واحد منهم .. وأنه يتنفس ويتغذى ويتحرك ويتزاوج ويتكاثر وينمو ويشعر ويحس .. ولعلي أجد أنني قد فقدت كثيراً من تلك الخصائص أو بعضها أو تبدل البعض الآخر منها .. فقد بدأت أفقد تدريجياً حاسة اللمس فهي محددة ومغلفة بقيود وأغلال .. وهي تكاد تكون من المحرمات في حياتنا الآن … فقد استقر في أعماق عقلي الباطن تعبير وأمر فعل (لا تلمس).. أين (الكمام )؟ وقد لاحظت أن هناك تغييرات قد بدأت تطرأ بشأن النمو والكبر ستظهر آثارها حتماً لاحقاً .. وهي تغييرات سيكولوجية فسيولوجية مرتبطة بمراحل العمر المختلفة .. وفي الحركة أصبح التقيد والبقاء والسكون هم الأمر الغالب .. فتحول جزء كبير من ديناميكياتي المتحركة إلى استكاتياتي الساكنة .. ففقدت كثيراً من حيويتي وقدرتي وحريتي .. وقد يحدث أو يكون قد حدث بالفعل ولأول مرة في تاريخ الإنسانية أن يصبح عدد المواليد مساوياً أو مقاربا إلى عدد المتوفيين في العالم فقد توقفت الزيجات واختفت محافل الاقتران والتقارب الجسدي وانعدمت العلاقات الحميمة بين الجنسين بينما يشهد العالم كل يوم شهداء جدد للكورونا.
جاءت الكورونا لتكون ضد كل ما هو طبيعي وإنساني وجميل .. ومثلما صنعت آلامنا وأوجاعنا وحصدت كثيراً من أرواح ممن أحببناهم وتوجعنا لفراقهم .. أعادتنا إلى أشياء جميلة كنا رميناها وراء ظهورنا ونحن نمضي في حياتنا .. لقد جعلتنا الكورونا نفكر من جديد .. ولكن بطريقة أخرى وبمعطيات مستحدثة ووضعتنا أمام تحديات جديدة .. ووضعت العالم كله والفكر البشري أمام مسئولياته الإنسانية والأرضية.
حتماً التجربة قاسية ومريرة ومفجعة .. والبشرية أمامها صامدة .. وقد تخرج منتصرة بعد حين .. ولكن ستمضي طويلاً في تضميد جراحها وتبحث عن حلول أخرى لمداواة جروح الكورونا النفسية والذهنية .. وستبحث عن طرق وأساليب جديدة للعيش والبقاء
سنمضي وتمضي معنا الكورونا المستجدة والتي سيأتي يوماً لنغير اسمها لتكون الكورونا المتلازمة أو الراحلة … (الكورونا المستجدة سابقاً)..فهي أم ترحل أم لتبقى .. وعلينا أن نعي ذلك وندركه ونتعامل معه!
••
سامي بن أورنس الشعلان – كاتب في صحيفة الإرادة
Twitter: @soalshalan
Email: sshalan@alerada.net