مـيـونـيـخ .. مـقـبـرة الـطـائـر الـهـولـنـدي !
قصةٌ تكاد أن تُكمل عقدها الأربعين , من قِصَصِ الماضي ,
التي كانت ولا تزالُ جانباً إستثنائياً
من أحاديث كرة القدم الأوروبية والعالمية ,
رُبما نحنُ الجيل الحديث لسنا بمحظوظين كفاية ,
لرؤية تلك القصة بمرآى أعينا ,
وهذه الأمورُ حدثت لنا ولغيرنا من الأنامِ ,
إلا أن ما ميّزنا عن الذين عاصروا ذلك الزمان ,
أنه كان ولا يزالُ بإمكاننا الرجوع لتلك القصة وقرأتها ورؤيتها بصورة واضحة ,
وكأنك تُتابعها من قلبِّ الحدثِّ , إلا أن هذا الأمرَ لا يعطيّك نفس المتعة ولذة رؤية
الشيء على طبيعته ولأول مرة وبصورة مباشرةٍ ,
قصةٌ نتداولها فيمَ بيننا ولنقارِنَ فيها الأكثرُ جمالاً ورونقاً وروعةً ,
فما يسبِقُ تلك الروعة والجمال ,
إلا روعة البطولة المكسيكية الشهيرة , لأصحاب الغلالات الذهبية
قصتُنا اليوم تتحدثُ وبشكلٍ مُجملٍ ومُفصلٍ عن خيّرة الكرات النادرة ,
والتي إلى هذا اليوم لم يتمكنْ من إتقانها منتخبٌ آخرٌ بنفسِ الجودة التي رأيناها !
بينما
كان العالمُ لا يزالُ يبكي رحيل الأسطورة البرازيلية الملك بيليه عن عالم كرة القدمِ ,
لم يكنْ أحدٌ يعتقدُ بأن ثمةَ مواهبٌ أُخرى ستكون بنفس وتيرة وإمكانات بيليه الخارقة ( للعادة )
ومع مرور الأيام , إنتقلت مراحل الكرة إلى التحضيرات القادمة للمونديال الجديد ,
والذي سوف يُقام في ألمانيا الغربية لعام 1974 , ويجبُ على الجميع نسيان الفوز ( للفائزين ) ونسيان الإخفاق ( للخاسرين )
والحرّث والإجتهادِ من أجلِ تقديم أفضل ما يُمكن في العُرسِ الكروي القادم لمنتخبات العالم بأسرها ,
ومع مرور الأيام ,
ظهرَ ذلك الماردُ البرتقالي من المصِباح لهولندي العجيب ,
والذي بدوره قد أدهشَ الجميع في العالم بِمَنْ فيها القارة العجوز !
كيف لا .. وقد ظهرَ جيلٌ آخرٌ يُشبه تماماً جيل برازيل 70 , وليس بنفس الأسماء , وإنما بمستويات فنية مُتكاملة جداً ,
المنتخب الهولندي المارد وقع في مجموعة تضمُ كُلاً من بلجيكا , آيسلندا , النرويج ,
هولندا واجهت المنتخب النرويجي وإفتتحت شباك التسجيل ( بغزارة مُتناهية )
إنتهت على إثرها المُبارة بتسعة أهداف مقابل لا شيء ,
كان للنجم نيسكنز نصيبُ الأسد فيها بهاتريك تلاه يوهان كرويف بثنائية ,
أما وبعد تساعية النرويج , تكرر إنتصارٌ كبيرٌ آخرٌ على حساب إيسلندا بخماسية , كان لكرويف منها ثنائية ,
وفي ظل المعدل التهديفي القويّ جداً ,
عادت هولندا مُجدداً لتسجل ثمانية في ديارها ضد الإيسلنديين ,
ولتكتفي بفوز معنوي على النرويج بثنائية , وتعادلين سلبيين ضد بلجيكا ,
لتكون حصيلة المنتخب الهولندي ( المرعب في تلك الأثناء )
24 هدفاً سجلها مقابل هدفين تلقاهما , ليكون بمثابة الإنذار الكبير لمنتخبات العالم
بمن فيها ألمانيا الغربية والبرازيل وإيطاليا !
لقد كانت من أفضل المباريات التي يقدمها المُنتخب الهولندي في ذلك الوقت ,
بنزعة هجومية فتاكة , وخطِّ دفاعٍ فولاذيٍّ جداً .. يصعبُ التفوقُ عليهِ ,
كما أن الفرحْةَ لم لتكنْ لتصف حالَ يوهان كرويف النجم الأول للمنتخب الهولندي في تلك الأثناءِ ..
لإن أحد أحلام كأس العالم والصعود بمنتخب البرتقالي أمرٌ لم يحدثه لاعبٌ هولندي بنفس هذا المستوى من قبلٍ . . .
يبدو بأن الجميعَ يحملُ لواء الجموح والرغبة لتحقيق ما ينقصُ البرتقالي ويكون الرقم الصعب في البطولة ,
وبدأت عملية فرّز وتوزيع المجموعات للمنتخبات المتأهلة للبطولة العالمية الألمانية ,
وقعت هولندا بمجموعة لا يُستهان بها ,
ضمّتْ كُلاً من السويد , بلغاريا , الإرغواي ,
فكلٌ من هذه المنتخبات تأهلت عن مجموعتها ولا يُمكن التقليلُ والإستهانة من الخصوم الأوروبيين أو اللاتينين ,
المنتخب السيليستي كان مشكلةً للبرتقالي , فالتفريطُ بفوزٍ على الإرغواي قد يُسببُ مشاكلاً لا حصرَ لها في نهاية الأمرِ ,
علماً بأن نظام البطولة السابق يحتسبُ للفائز نقطتين , والتعادلُ بنقطة , وصفر نقاط للخسر ,
إلا أن النجم ريب كان له رأيٌّ آخرٌ تماماً .. حيّال هذه الفكرة وأحرز ثنائية حسمت المسألة برمتها ,
وتعادلت هولندا أمام السويد بالسلبِّ , قبل أن تختمَ مباريات المجموعة برباعية كبيرة على البلغار ,
وتنهي المجموعة بالصدارة وبجدارةٍ ,
في ظلِّ هذه الأثناءِ ؟؟
كان صاحبُ الغلالة 14 وقائد المنتخب الهولندي
حديث الكاميرات والشاشات ,
نظيرَّ الكرة الهجومية والمهارية العالية والتي رأها الجماهير
( الأنصار والأعداء ) فيه ناهيك عن موهبته الفذِّ والخارقة !
ما الأمرُ ؟
هولندا تصلُ إلى الدور قبل النهائي ( صندوق المجموعات الثاني )
والذي ضمَّ أسماءً كبيرة في عالم المستديرة ,
البرازيل حاملُ اللقبِ , ألمانيا الشرقية
( المتصدرة عن مجموعة ألمانيا الغربية )
وأخيراً الأرجنتين !
إعتقدَ البعضُ بأن الأرخنتين من الممكن أن يُسبب نوعاً
من الحرّج للطاحونة الهولنديّة لإن النتيجة غير مضمونة حتى الأن ..
إلا أن المدافع العملاق كرول كان له رآيٌ آخرٌ تماماً في النصف ساعة أولى ,
وضاعف من النتيجة لتبدد آمال التانغو …
ويرضخ لهزيمة مُدوية , أطلقَ في نهايتها الجناح الهولندي الطائر كرويف
رصاصة الرحمة في الدقيقة ال90 .
في هذه الأثناء ,
وبعد فوز البرازيل على ألمانيا الشرقية ,
بات من الواضح أن المنتخب الهولندي والبرازيلي
سيحسمان بطاقة التأهل للنهائي فيمَ بينهما ,
هولندا لعبت ضد ألمانيا الشرقية بُكلِ صبرٍ , لإن أي نتيجة عكسية
سوف تودي بطموحاتها خارج النهائي !
فبدأ الضغطُ الهولندي بالإنطلاق حتى أتى الهدف الأولُ , بتوقيع نيسكنز ,
وليردفَ مواطنه روزنبيرنزيك الهدف الثاني للبرتقالي ليؤكد بأن الخصم الأخير ( البرازيلي )
هو من سيُحدد نهاية المتؤهل للنهائي ,
رغم وجود جارزينيهو ( الإعصار البرازيلي ) ..
وروبيرتو ريفلينيو ( حامل لواء الرقم 10 )
لم تستطعْ السامبا من التفوقِّ على خط دفاع البرتقالي الشبيه بالجدار الفولاذي ,
وفعلاً ,
إستطاع كرويف ونيسكنز بفضل مهارتهما العالية من تسجيل هدفين والتفوق على البرازيل
والصعود لأول مرة في تاريخ البرتقالي إلى نهائي البطولة ,
الحلم الذي لطالما رواد الهولنديين ولطالما روادَ مُخيلة يوهان كرويف على
وجهِ التحديدِ . . .
مواجهة المنتخب الألماني الغربيّ سوف تكون الأصعب في تاريخ البطولة نفسها ,
لإن الهولنديين تربطهم علاقات إستثنائية من الحقدِّ والكراهية والبغضاء بعد ما قام به القائد أدولف هتلر في ألمانيا ,
حتماً إن لمثلِّ هذه المباريات نكهة خاصة وحوارات وصراعات إستثنائية بالغة بين البرتقالي والأبيض الألماني ,
إنطلقت المواجهة الكبيرة بحضور تجاوزّ 75 ألف مُتفرجاً .. في ملعب ميونيخ الأولمبي ..
جيرد مُولر يراقب ,
وأونيلي هونيس يحاول تفكيك الكرة اللاصقة بأقدام كرويف . .
تأتي بركلة جزاء في اللحظة الأولى من عُمر المباراة !!
ماذا بعد ذلك ؟
ألمانيا تتخلفُ بهدفٍ بوقتٍ مُبكرٍ عن طريق ركلة جزاءٍ بطريقة نيسكنز الصاروخيّة
والوضعُ يبدو خطيراً على أصحاب الأرضِّ ,
أنت لا تواجه كرّة هجومية حيثُ يمكنك إستغلال هفوات الدفاع ..
ولا تواجه مُنتخب يمتطيّ حصاناً أسوداً كالذي لدى بولندا ..
المسألة تبدو صعبة جداً في ظلّ وجود أقوى خطّ دفاع في ذلك الوقت
وما زاد الطيّن بله على أصحاب الأرِضِ ..
إنه من غير الممكن أن تتحكم بالجناحِ الهولندي الطائر
خاصةً بعد أن يقوم بتأدية حركته الشهيرة ..
والتي كان من أفضل مُبتكريها في ذاك الوقتِ ,
ولمن لا يعلّم بأن هذه الإستدارة خُلِقَتْ فقط لجسّد يوهان كرويف دون غيرهِ !
حتماً الوضعُ يزدادُ سوءاً على أبناء أدولف هتلر , ويجبُ إنجازُ المهمة بنجاحٍ ,
الأمرُ لا يبدو سهلاً البتّة , هولندا تكاد تكون عازمة على تحقيق المفاجئة !
ألمانيا الغربية تبدأُ بتجميع قواها تدريجياً لتشنَّ الهجوم المُضادِ ,
خطأٌ هولندي بعد 24 دقيقة من هدف هولندا الأولِ ,
يتسببُ بركلة جزاءٍ لألمانيا الغربية
بريتنر من نقطة الجزاء يفعلُها !
ألمانيا تعود إلى المباراة من جديد ومن نفس النقطة البيضاء !
جيرد مولر يرفضُ إنهاء البطولة بدون هدفٍ
يُخلده كأفضل هدافٍ في تاريخ كؤوس العالم آنذاك . .
ألمانيا تسجلّ الهدف الثاني ..
طبعاً طريقة الهدف الجميلة لا تزالُ عالقة
في ذهن الطوربيد الألماني جيرد مولر ..
بقيّ الآن البحث عن أقوى وسائل ردّع الهجوم الثلاثي الهولنديّ ..
المشكلة بأن جميع العناصر ممتازة في الخط الهجومي بل وهم ممتازون
جداً في تبديل أماكنهم فيمَ بنيهم .. ولذلك سُميّت بالكرّة الشاملةِ .. !
فإذا كان لهولندا طائر عظيم مثل يوهان كرويف ..
فإن ألمانيا تملكُ قيصراً لا يقلُ شأناً نظيره الهولندي ..
فالقيصرُ الألماني فرانز بيكنباور فقد تكفلَ بشكلٍ كافٍ لردع الطائر
الهولندي من التحليق في السماءِ الألمانيةِ ..
لتفقد بذلك هولندا أقوى سلاح لها في مشوارها العالميّ !
وسرّعان ما مرّتْ الدقائق كثوانٍ صاروخية لكرويف ورفقاؤه ..
ومرّتْ كالجبال على القيصر ورفقاؤه ..
لتنتهي بذلك قصةُ المنتخب الهولندي ( الطاحونة )
وصيفاً لألمانيا الغربيبطلة مونديال 1974 ..
فكسب الهولنديين إحترام وتقدير الجميع إلى يومنا هذا . .
علماً بأنهم لم يتلقوا إلا هدفين في هذه الدورة وفي النهائي فقط . .
ليتمّ تكريم هولندا بعد ذلك ب32 سنة بحلّولها ثاني أفضل منتخب في التاريخ بعد برازيل 1970 !
المنتخب الهولندي في تلك الأيام ..
كان شبيهاً جداً بأسماء سبقته بسنوات ..
فهو يسبقُ منتخب المجرّ ( هنغاريا ) قبل عشرين عاماً بالتمام !
ويشبهُ كثيراً برازيل 50 التي سبقته بربع قرن تقريباً ..
ولكيّ نكشفّ سرّ قوة هولندا تلك يجبُ أن نطلع سويّاً
على التكتيك الذي سار به الطائر يوهان كرويف ورفقاؤه ..
السرُ في قوة المنتخب الهولندي إبتكاره
لطريقة إستثنائية وممتازة جداً ..
ألا وهي الخطة الشاملة 4 – 3 – 3
وكما ترون في الصورة صعود كلاً من كرول وسرباير عند الهجوم ,
وتغطية هان للخطين الدفاعين والصعود للإرتكاز تارةً . .
مع تبادل ريب وكرويف وروزنبيرنزيك أماكنهم في خط الهجوم ,
وصعود نيسكنز ونزول كرويف فيمَ بين مراكزهما . . .
إلى هذه الأثناء لا نرى مُنتخباً يملك نفسَّ حس هولندا 74 ولا بنفس وتيرة أدائها ..
هولندا خوليت وباستن وريكارد ممتازة لكنها لم تقدمْ ربع مستواها
في مونديال إيطاليا .. أما هولندا بيركامب ورفقاؤه
فسوء الطالع كان يصطدم معهم دائماً ..
أما هولندا روبين وشنايدر فهما لا يختلّفان كثيراً عن من سبقهم ..
لذلك ستبقى القصة الهولندية مرّجعاً تاريخياً لا يُمكن للتاريخ أو للأنام إجحافه وتناسيه في يوم من الأيام .
نترّككم مع ملخصٍ للنهائي
فـهـد الـفـضـلـي – كـاتـب فـي صـحـيـفـة الإرادة الإلـكـتـرونـيـة
Twitter: @Fahad_Fenomeno