قلم الإرادة

رحل .. بعد أن غير تاريخ أمة

عندما تم إسعافه إلى المشفى أصبت بالهلع والذعر..
فقد كنتُ أؤمن بأن أعراضه المرضيّه كانت نتاج لطبيعة حياته وإختياراته الشخصيّة

والتي إختارها بمحضِ إرادتها وليس بإجبارٍ كما يحدثُ مع كثيرٍ من الآنامِ ..
لقد كان بالإمكان أن يحلَّ محلهُ الكثيرون في عصرِهِ ..
إلا أنه كان فريداً جداً من نوعه مما أعجزَّ أعظم أمة كرويّة من تكراره أو حتى الحصول على نسخةٍ جديدةٍ
مِنه حتى هذه اللحظةِ ..

ما أعرفه بأننا نعيش وُفقَ شروطِ الحياةِ ..
إلا أن سقراط عاش حياته وفقاً لقوانينه وشروطه هو فقط لا غير !

فعندما لا تتناسب شروطه مع مضمار حياته .. فهو لا يتوانى في تغييرها ..

لقد كان أكثر من لاعبٍ عظيمٍ وشخصية سياسية معشوقة لبلاد ريو دي جانيرو ..

خاصةً تِلك التي تقطنُ في كورنثيانز ..

عندما سمعتُ بقصة ( Corinthians Democracy )
أيّ ديمقراطية كورنثيانز ..أصبح لزاماً عليّ أن أقرأ عنه وأتحدث أيضاً ..

رأيته جيداً في كورنثيانز عندما كان شاباً يافعاً .. رغم أنه قال في شبابه بأنه لا  
يرى نفسه لاعب كُرة قدمٍ .. رغم موهبته الفذة جداً ..
فأناقته وتنوع طريقة لعبه المتعدد تُجبر الخصم على التصفيق له بحرارة طاغية ..

لقد قاد البرازيل بين فترتي 82-86 حيثُ كنت دائماً أراه باللبس الأزرق والأصفر الذهبي بلحيةٍ مُمتلئةٍ !
هكذا كنت أراه وأتخيله إن لم أتابعهْ عن كثبٍ ..

ما قد يغيبُ على ذهن الكثيرين .. بأن البرازيل عانت كثيراً على الصعيد السياسي في الستيناتِ ..
حيثُ حُرِمَتْ هذه الأمة من حقِّ التصويت في عام 1964 في إختيار الرئيس البرازيلي للبلادِ ..
وإستلمت مجالسٌ عسكرية كثيرة زمام القيادة والسيطرة طوال تِلكَ السنينِ ..

فبعد إضاعة لقب العالم 1974 أمام هولندا القوية آنذاك .. تدخلت جهات سياسية عسكرية للتلاعب بالإختيارات
الوطنية لمنتخب السيليساو ..

فلقد سعوا على قدمٍ وساقٍ إلى تغيير نمط لعب المنتخب البرازيلي ..
كيّ تكون ربحيّة أكثر من كونها ذات بطولات ومهارات ومتعة فريّدة .. !

المجلس العسكري الحاكم في بلادِ الأمازون حاول إجبار المدرب الراحل كلاوديو كوتينهو على تغيير
طريقة لعب البرازيل وهذا يؤكد بشاعة النظام العسكري في بلاد الأمازون في تلك الفترةِ ..

حيثُ كان مطلب المجلس العسكري أن تلعب البرازيل بطريقة الإحتكاك والقوة البدنية ..
وأن تتخلى عن الفردية والمهارة في اللعبِ .. !

هذه الفكرة الإستبدادية لم تكنْ مقصورة على المُنتخب الذهبي وحسبِ ..
بل إنها إجتاحتْ الأندية البرازيلية دون إستثناء !
لقمعِ كُل ما هو ساحرٌ وجميل في بلاد الأمازونِ ..

ويحلُ محلها ما يُسمى بالتركيز ( Concentracao ) وهي تفيد الجديّة والخشونة باللعبِ ..

هذه القصة قتلت الفكرّة المهارية في نفوس اللاعبين وبدا عليهم اللامبالاة في مباريات البرازيليرو أو دوري المقاطعات ..

قال المدرب البرازيلي الحالي فيليب لويز سكولاري مقولة شهيرة في تلك الأثناء للنظام الحاكم ..
لاعبوا الكرة البرازيلية ليسوا أدوات صماء وإنما مجموعة من أحاسيس
ومشاعر جياشة من الفنِّ والموهبةِ الربانيّةِ  !
إنهم يؤمنون بما يملكونه وما يعتقدون بأنهم قادرون على إحداثه ..
فلنتركْ كرة القدم الجميلة تعيشُ في نفوسهم كما تُريد .. !

وفي الجانب المقابل بعد رحيل الفيلسوف إلى نادي كورنثيانز كانت وجهات نظره السياسية محض نقاشٍ وجدلٍ مُستمرٍ .. لإنها لا تتماشى مع النظام العسكري ..

فلمْ يعد بإمكان سقراط أو غيره من الملايين تحمل النظام الإستبدادي .. مما أجبره إلى إبتكار
حركة سياسية جديدة سُميت بشعور الأمةِ ..
Feeling of Nation .. وكان هذا الأمرُ في مطلع الثمانينات ..
بدأت العملية تصبحُ بالمقلوب فقد بدا بأن المجلس العسكري يضعف ويفقد سلطاته ..
بينما زيادة القوة والنفوذ للحركات الشعبية بمن فيها حركة شعور الأمةِ .. !

هذه الإنتفاضة الشعبية تسبت بالتحرر السياسي والتغيير من قادته ..
فقد إنتهت فترة ولاية الرئيس العسكري لتُصبحَ البرازيل بعد ذلك دولة ديمقراطية ..
وقد كان سقراط الفيلسوف أحد الرؤوس المُدبرة لذلك ..
ليعود للبرازيلين الحقُّ في التصويت وإختيار الرئيس بعد أكثر من 20 عام من النظام العسكري المتواصل .. !

يقول سقراط .. لقد إنتشرت الديمقراطية في بلادي بشكلٍ واسعٍ ..وهذا ما يُشعرني بالرضا والإطمئنان
وعدم القلق على أبناء جلدتيّ في المُستقبلِ !

سقراط كان نموذجياً جداً في حديثه ففي إحدى مقابلاته الشهيرة
عن الأفضلية بين الملك بيليه والإسطورة مارادونا ..

قال سقراط بنبرات تعجبية وأُخرى ساخرة : إنهما يقتتلان على أمرٍ سخيفٍ !
أنا الأفضل ! لا أنا الأفضل .. !
لا أحد أفضل من أحدٍ .. !
خصوصاً بعد تمحورّ الأزمنةِ وتغييرها ورحيلها لسنينٍ عن الجيليين ..

ويردف سقراط في حديثه .. يجب أن تكون أنت كما أنت !
أنت لست بحاجة لأن تكون أفضل من شخصٍ آخر .. !
لإنك لو كنت أفضل من شخصٍ فسوف يكون هناك شخصٌ أفضلُ مِنكَ .. !

ويكمل سقراط حديثه .. مارادونا له إستايل خاص .. وكذلك لبيليه ستايل خاص .. كما لكالي ليو ستايل خاص به .. ! من الأفضل ..؟ ما المهم في الأمرِ .. ؟

أعتقد بعد إختيار أفضل لاعب في القرن بين بيليه ومارادونا أصبح الأمرُ أكثر من شخصيّ بين الإثنينِ !

وإختتم سقراط حديثه قائلاً .. أنه قتال الأغبياء .. إنه أمرٌ غبي بكل ما في الكلمة من معنى ..
لنكنْ صريحيين مع أنفسنا .. مارادونا يعتقد بأنه الأفضل .. وكذلك الأمرُ لبيليه ..
إلا إنني أؤمن بأن البرازيل والأرجنتين أكبر منهما بمراحل كثيرة ..

هذه كانت آخر كلمات الإسطورة الراحلة سقراط ..
الذي غير نظام أمة رُبما كانت لتزال تُعاني دكتاتورية النظام العسكري إلى يومنا هذا ..

لكم أن تتيقنوا الآن لماذا هو من أفضل عشرة لاعبين برازيليين على مرِ العصورِ ..
ولماذا هذه الأحاديث الطويلة عن فلسفته وحنكّته في أمورِ السياسة ..

ببساطة هو الفليسوف الراحل سقراط

فهد الفضلي – كاتب في صحيفة الإرادة الإلكترونية

Twitter : @Fahad_Fenomeno

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى