بناء الغواصات… اختبار القدرات الصينية الدائم
في ضبابية قاتلة وغموض صيني مريب، تكتمت بكين كعادتها عن التعليق على غرق غواصتها النووية الهجومية الأولى من طراز “تشو” في حوض بناء السفن ووشانج على نهر اليانغتسي بمدينة ووهان صيف العام الماضي. فيما لحظت الأقمار الصناعية الحادث، وأكده خبراء مختصين بعد قراءة صور الأقمار الصناعية.
فوفقاً لوكالة أسوشيتد برس، أظهرت الأقمار الصناعية غواصة راسية في حوض بناء السفن. في 15 حزيران/يونيو الماضي ظهرت الغواصة مغمورة كلياً أو جزئياً تحت سطح النهر، وبجانبها معدات إنقاذ ورافعات تحيط أذرعها بالغواصة، منعاً لأي تسرب نفطي أو سواه.
لاحقاً، ظهرت غواصة في نفس الرصيف. لكن ليس من الواضح ما إن كانت نفسها أم لا؟ كذلك لم يكن واضحاً إن كانت الغواصة المنكوبة محملة بالوقود النووي، أو كان مفاعلها يعمل وقت وقوع الحادث أم لا؟ وهو ما يجب على بكين توضيحه.
“لسنا على دراية بالوضع الذي ذكرتموه وليس لدينا حاليا معلومات نقدمها”، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، رداً على سؤال حول الحادث خلال مؤتمر صحفي في بكين. علّق مسؤول أمريكي، “ليس من المستغرب أن تخفي البحرية الصينية ذلك”.
الغواصة الصينية “تشو”؟
رغم شح التفاصيل حول “تشو”، يبدو أن الصين تطور تصاميم غواصات نووية سابقة، حسب موقع Defense News. حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية فئة جديدة أو نوعاً فرعياً من غواصة هجومية صينية تعمل بالطاقة النووية، يحتمل تجهيزها بخلايا دفع خفي متقدمة ونظام إطلاق عمودي لصواريخ كروز.
لدي ثقة عالية لحد ما أن الغواصة تتضمن صفاً من خلايا نظام الإطلاق العمودي للصواريخ التي تطلق من الغواصات وكفن للدفع النفاث المضخ، قال خبير بحري.
بدوره، أشار كولين كوه من كلية إس راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة لإجراء بكين أبحاثاً في الدفع النفاث للغواصات بالاعتماد على أدبيات علمية منشورة سابقاً. منوهاً لمناسبة امتلاك غواصات قادرة على إطلاق صواريخ كروز مضادة للسفن ولمهام الهجوم البري مع مساعي بكين للحصول على قدرات هجومية بعيدة المدى. بما يمكنها استهداف أصول البحرية الأمريكية والأهداف البرية البعيدة، كقاعدة غوام.
استناداً لصور القمر الصناعي، إن كان الجزء المستطيل على الغواصة مجموعة من خلايا VLS، سيكون ذلك متماشياً مع تقرير البنتاغون لعام 2021 حول احتمالية بناء لـ “غواصة هجوم نووي من النوع 093B ذات صواريخ موجهة”، قال كوه لـ Defense News.
وتتميز الغواصة ببقع خضراء مميزة على هيكلها، وترتيب دفة صليبية ونظام دفع محتمل، ما يشير إلى تقنية المضخة النفاثة. وهو ما يتماشى مع أبحاث الصين المستمرة في أنظمة الدفع لتعزيز قدرات التخفي والتشغيل. حيث تواصل بكين تطوير قدراتها في الغواصات، وورد مؤخراً تلقيها مساعدة من روسيا في هذا المجال.
ووفقاً لتقرير القوة العسكرية الصينية لعام 2023 الصادر عن البنتاغون، تمتلك الصين أكبر عدد من السفن البحرية في العالم، حوالي370 سفينة سطحية وغواصة. من بينها ست غواصات صواريخ باليستية تعمل بالطاقة النووية، ومثيلها هجومية، و48 غواصة هجومية تعمل بالديزل. مع توقع بلوغها 65 غواصة عام 2025 و80 بحلول عام 2035.
طعنة لطموحات بكين
يمثل غرق الغواصة انتكاسة كبيرة لبرامج الصين البحرية، باعتبار “تشو” قفزة نوعية في مجال الغواصات النووية، مزودة بأحدث التقنيات وأنظمة الدفع المتقدمة، لجعلها أداة حربية قوية. وتسعى الصين لتوسيع وتحديث أصولها البحرية ضمن طموحها بمضاهاة أو تجاوز واشنطن في قدرة الحرب تحت سطح البحر، حسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS). وعليه، تسّرع من برامج تطوير وبناء غواصات متقدمة تعمل بالطاقة النووية.
حيث تسعى لتحقيق توازن في القوة والأصول الاستراتيجية، كالغواصات العاملة بالطاقة النووية والتي تحمل صواريخ برؤوس تقليدية ونووية، حسب مدير برنامج الأمن والدفاع بمركز صنع السياسات الدولية، اللواء العراقي ماجد القيسي.
يضيف القيسي، لدى الصين اليوم ثلاث حاملات طائرات، وتسعى لبناء عدد آخر من حاملات الطائرات. وعلى مستوى الفضاء تطلق بين الفينة والأخرى صواريخ بالستية تحمل أقمار صناعية.
ولعل الموضوع مرتبط بخطوط تجارتها العالمية ومبادرة “الحزام والطريق” الصينية، إلى جانب ارتباطه بالخلافات الصينية الأمريكية، وخلافات الصين مع جوراها الإقليمي، بما فيها اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين حول بحر الصين الجنوبي والشرقي، ومع تايوان، قضية بكين الأهم.
في المقابل، “قامت واشنطن ببناء قواعد وتحالفات إقليمية لضبط الطموحات الصينية. ولمواجهة القوة الأمريكية، تقوم بكين بتطوير قدراتها بما يمكنها من استهداف القوات والقواعد الأمريكية، كقاعدة غوام”، قال اللواء القيسي لموقع “الإرادة” الكويتي.
وكانت صحيفة وول ستريت جورنال قد نقلت عن تقرير للبنتاغون ارتباط تطوير الصين للسفن والغواصات الهجومية وحاملات الطائرات بهدف مواجهة جهود واشنطن وشركاؤها لمساعدة تايوان في مواجهة الاستفزازات والمطالب لبكين لأخيرة بإعادة ربط الجزيرة بالسيادة الصينية. وهي ادعاءات صينية تطال عدد من جزر بحري الصين الجنوبي والشرقي، وتفتقد الأسس القانونية والأكاديمية، قد نقضت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي ما رفع إليها.
لذا، تكرّس بكين تفوقها البحري داخل سلسلة الجزر الأولى الممتدة من الأرخبيل الياباني عبر تايوان والفلبين إلى بحر الصين الجنوبي، والذي تعتبره بحراً صينياً خالصاً، ويشكل مع مضيق ملقا رئة تجارتها العالمية. وهي تجارة تأمل منها بكين توسيع نفوذها العالمي مع تحقيق أهداف جيوسياسية.
تعمل الصين على اكتساب أحدث التقنيات في محاولة لبناء تفوق بحري ضد القوات الأمريكية التي تقوم بدوريات في المنطقة لتحييد التهديدات الصينية، بعد إدخالها للقوة في المياه المتنازع عليها، مع مطاردات ومواجهات استفزازية لأساطيل غربية وإقليمية. بما فيها مناورات عسكرية حاكت آخرها عملية تطويق وغزو لتايوان، حسب إيرينا تسوكرمان، وهي خبيرة استراتيجية أمريكية ومحامية أمن قومي.
وتشكل الغواصات النووية ركناً أساسياً من استراتيجية بكين، كونها جزء أساسي من الثالوث النووي. ويمكن تسليحها بطوربيدات وصواريخ مضادة للسفن. وبعضها قادر على ضرب منشآت العدو على الأرض. لذا ستكون مثالية لإسقاط أنظمة الدفاع الصاروخية التي حصلت عليها تايوان. كما يمكنها جمع المعلومات الاستخبارية، بما في ذلك العمليات السرية، كتدمير خطوط الأنابيب أو كابلات الإنترنت تحت الماء. وهو ما اتُهمت به بكين سابقاً.
علاوة على ذلك، تتمتع الغواصات النووية بخاصيتين تجعلها مثالية للقتال في العصر الحديث. أولهما، القدرة على التخفي، مما يجعلها قادرة على التسلل للأهداف دون سابق إنذار. حيث يتم استخدام ميزات تصميم لتقليل الصوت كالبلاط عديم الصدى على هياكلها. وثانيهما، قدراتها على العمل بسرعات عالية والبقاء تحت الماء لعدة أشهر دون حاجة للتزود بالوقود. وهو ما يجعلها مثالية للعمليات الطويلة ولجمع المعلومات الاستخبارية على المدى الطويل.
لذا، الغواصة النووية بحد ذاتها سلاح قوي، حتى من دون أسلحة إضافية حديثة ومتقدمة. وهي رسالة لنوايا الصين مستقبلاً. فلا توجد استخدامات مدنية أو سلمية تماماً لمثل هذه التكنولوجيا الباهظة الثمن، حسبما قالت تسوكرمان لموقع “الإرادة” الكويتي.
لكن “غرق غواصة نووية جديدة سيبطئ خطط الصين لتنمية أسطولها من الغواصات النووية، وهذا مهم” قال برنت سادلر، وهو زميل باحث بارز في مؤسسة التراث الفكرية لصحيفة وول ستريت جورنال. والتي كانت الأسبق بكشف حادثة غرق الغواصة الصينية الأولى من جيل جديد لغواصات تعمل بالطاقة النووية، ومجهزة بتقنيات توفر لها قدرة كبرى على المناورة، من خلال مؤخرة على شكل X.
وقبلها، نوّه توم شوجارت، وهو ضابط غواصات أميركي سابق وزميل أول مساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد، لنشاط غير عادي لرافعات عائمة تم التقاط صورها بواسطة الأقمار الصناعية. مفترضاً وقوع حادث متصل بالغواصات. “عادة، تظل هذه الغواصات بعد إطلاقها في حوض بناء السفن لعدة أشهر في التجهيز، ولكنها لم تعد موجودة هناك”، قال شوجارت.
وبحسب بعض الخبراء، يكشف غرق الغواصة شيئين رئيسيين، نقص الخبرة الشاملة، بما فيه القيادة التشغيلية والتقنية. والآثار التراكمية لقضايا الرضا عن الذات التي تؤدي إلى حدث فشل كبير.
“لا تمتلك الصين الخبرة العسكرية التي تتطلب مراكمة الخبرة والتطوير المهني على مدى عقود. تزيد سلسلة القيادة الرأسية الصارمة الأمور سوءا عندما يكون القادة مقيدين”، قال الدكتور تروي بوفارد، وهو مدير مركز الأمن والمرونة بالقطب الشمالي في جامعة ألاسكا فيربانكس. أضاف بوفارد “في ظل هذا الثقافة ونقص الخبرة يتم الجنوح لتبرير هذه الإخفاقات”.
بجانب ذلك، أثار الغموض المحيط بالحادث تساؤلات حول مدى كفاءة وإمكانية الاعتماد على القدرات النووية الصينية المتزايدة. “الحادث وجدار الصمت الذي يكتنفه يثير تساؤلات جدية حول كفاءة الجيش الصيني ومساءلته” قال مسؤول دفاع أمريكي. وأضاف، “إلى جانب الأسئلة حول معايير التدريب وجودة المعدات، يثير الحادث أسئلة أعمق حول المساءلة الداخلية لجيش التحرير الشعبي الصيني والإشراف على صناعة الدفاع الصينية، التي ابتليت منذ فترة طويلة بالفساد”
فوفقاً لمقال نشرته مجلة العلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية عام 2021، أصبح الفساد في صناعة الدفاع الصينية قضية ملحة ومتأصلة بعمق في هيكل المؤسسات العسكرية الحكومية.
قد يطال الصين حرج كبير جداً نتيجة حادثة الغواصة، قالت تسوكرمان. إن كان الغرق نتيجة خطأ بشري، هذا يعني أن القدرات البحرية الصينية مبالغ فيها، وأن تقنياتها الأكثر تقدماً ليست جاهزة للاستخدام. أما إن كان نتيجة استهدف من قبل واحدة أو أكثر من القوى، فالأمر محرج بنفس القدر أو أكثر، بسبب فشل الصين في اكتشاف ومنع عمل العدو.
نهج الغموض القاتل
تغيب الأدلة عن فحص السلطات الصينية للمياه أو البيئة القريبة من موقع غرق الغواصة النووية بحثاً عن الإشعاع، قال مسؤولون أمريكيون. لا يوجد اعتراف بالحادث أيضاً. ” هل يمكن تخيل غرق غواصة نووية أمريكية والحكومة تتكتم عليها ولا تخبر أحدا عنها؟” قال شوغارت.
وتصّعب السرية المحيطة بالحادث وانعدام الشفافية من تقييم الحجم الحقيقي للضرر أو الآثار البيئية والبشرية المحتملة. وقد يكون للحادث ارتباط باضطرابات داخل القيادة السياسية والعسكرية للصين، حسب The Asia Live. مستشهدة بغموض حادثة التحقيق وإقالة وزير الدفاع الصيني السابق، والتي أثارت تكهنات حول صراعات داخلية على السلطة.
لكن الغموض ليس وافداً على بكين. حيث تم الإبلاغ عن حوادث مماثلة سابقاً، ومنها فقدان غواصة نووية صينية في البحر الأصفر. مصادر حكومية بريطانية أكدت الحادث الذي أدى لمقتل 55 بحاراً صينياً. مع ذلك، نفت بكين وقوع الحادث. ويبدو أنها رفضت حينها طلب المساعدة الدولية لغواصتها المنكوبة.
كما اكتشف صياد صيني منظار غواصة ديزل بالصدفة. تم إعلام بحرية جيش التحرير الشعبي للتحقيق في اشتباه تجسس، أو بملكية الغواصة لأحد الكوريتين. أصابت الصدمة عناصر البحرية عندما اكتشفوا أنها غواصة صينية طراز مينغ، مات جميع ضباطها وعناصرها البالغ عددهم 70 بحاراً بسبب اختناق يرّجح سببه عملية غير سليمة أثناء تشغيل محركات الديزل.
و”تفتقر الصين للشفافية” حيال نفقاتها الدفاعية، مع “إبلاغ غير متسق عن الأرقام”، مما أكسبها انتقاد الخبراء الدوليين. حيث تنشر بكين بيانات إنفاق رسمية بمبالغ أقل مما تشير إليه التقديرات الغربية. فبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، تجاوز نمو الميزانية العسكرية للصين نموها الاقتصادي الإجمالي لمدة عقد على الأقل.
••
عمار جلو – كاتب وباحث